Friday 12 April 2013

الجامعة.... الصدمة الثقافية الثانية!

الجامعة.... الصدمة الثقافية الثانية!


تدخل امرأة عجوز تبدو في السبعين من عمرها إحدى قاعات المحاضرات أثناء إلقاء محاضرة في كلية الفيزياء. تمشي مستندةً على عصا لتجلس في الصف الأول. يبدو أنها تائهة، أو ربما تبحث عن حفيدها بيننا. ينظر إليها المحاضر ويبتسم لها ابتسامة المرحب. ربما كان المحاضر هو ابنها الذي تبحث عنه. يعم فضول الطلاب ارجاء المكان. ليس من المستغرب أن ترى كبار السن هنا يمضون وقتهم في حضور الندوات الثقافية أو حتى العلمية، ولكن هذه المحاضرة متقدمة. لا شك أنها أتت لتشجيع ابنها. وبالفعل ماهي إلا دقائق حتى توقف المحاضر ليعرف بهذه السيدة العجوز: "البروفسور جليان، تكرمت علينا ببضع دقائق لتحدثنا عن مجموعه الأبحاث التي تقوم بها. برفسور جفن، هلا بدأت؟".  صاعقةٌ ثقافية جديدة تهز المكان!! انها تتكلم عن دوران الالكترون لكن ليس حول النواة، بل حول نفسه على مايبدو، أمرٌ يعرف بالelectron spin  هو ليس دورانا كلاسيكيا، هو ليس دورانا أصلا.  أمرعجيب! انها باحثة في ميكانيكا الكم. بدأت تكتب بعض المعادلات التكاملية المعقدة... تبدأ بحلها و شرحها! انه أمر مبهر. يفاجئني المجتمع الغربي، ان هذا المجتمع يستحق الاحترام... 




 بروفسور"جليان غيهرينغ"

ينادي الطالب استاذه هنا باسمه الأول دون حتى ذكر لقب "دكتور". حتى ولو كان هو مؤلف الكتاب العلمي الذي يدرًس في الجامعة وغيرها من جامعات العالم. الصدمة، أن "الدكتور" لا يشعر بأي نوع من الاهانة فثقته وتواضعه بنفسه، وعلمه وإنجازاته العلمية  كافيةٌ لأن ترفعه في أعين الجميع دون حاجةٍ إلى ألقاب تملقية. يَعونَ هنا أن العلم ليس حكراً على أحد وأن أسطورتك كعالم تخلد فقط إذا استطعت أن تنقل علمك إلى تلاميذك، فلا فائدة منها إن بقيت في عقلك خفية أن "يسرقها" طلابك. لذلك يُشجع الطالب على طرح أكبر عدد من الأسئلة العلمية حتى وإن كانت دون المستوى أو كانت معقدة، فليس غريبا ان يعتذر الاستاذ لعدم معرفته الإجابة..... الانسان هنا يقدر ويحترم على مقدار علمه قبل حسابه البنكي. العالِم هنا له قيمةٌ مختلفة.

الأفكار العلمية تستثمر في كل لحظة. معظم البحوث العلمية تُدعم من الشركات الصناعية أو من الحكومة ويعكف الطلاب محاولين حل جزء من مشكلة اقتصادية أو تكنولوجية تواجه المدينة أو الشركة. وبهذا  فإن البعد بين العلم  والحياة العملية يتضاءل. وتُستثمر النخبة العلمية في إيجاد حلول علميه تهدف إلى النهوض بالبلد. ولا حاجة إذاً لشراء حلولٍ خارجية. و في النتيجة تصبح الدولة ممتلكةً لخبرة عظيمةً في ذلك المجال لتقلب مشكلاتها إلى ميزات! الجامعات هنا كالطاقة المتجددة.

وليس دورالجامعة أكاديميا فقط، فماذا إذا استوحى أحد الطلبة فكرة مشروعٍ تجاري صغير ما وهو يسير في سوق المدينة؟ كشك  صغير بفكرة ما؟ مطعم صغير؟ فكرة بسيطة وغير تقليديه؟ أجل، يوجد قسم  خاص يقدم الدعم المادي وورشات العمل ونصائح الخبراء.. وكل ذلك مجاناً ودون أن يشاركك أحدٌ في أرباحك. ربما توجد هذه في بعض الجامعات، لكن تذكر أننا نعطي نموذجاً عن أسلوب التفكير الذي نفتقره لسببٍ ما في بلادنا.


كانت هذه المشاهد كلها تدور في ذهني وأنا أقارن أوضاع الجامعات عندنا في الدول العربية. لماذا لا تستثمر هذه الطاقات في بلادنا؟ ألا يسافر وزراؤنا الى الدول المتقدمة؟ ألا يرون ما أراه؟  هل انا أول الواصلين هنا؟! لماذا لا تستثمر مشاريع و بحوث التخرج لحل المشاكل التي يواجهها السكان؟ فمثلا اذا ما تعاني احدى الدول من نقص في موارد المياه، فلماذا لا تتركز الأبحاث العلمية في معظم جامعات تلك الدولة  لابتكار طرق لاسترشاد استهلاك المياه أو اعادة تدويرها؟ ولماذا لا تستثمر مشاريع التخرج اصلا؟ كل مشروع هندسي يستكمل من مئات الطلاب في الجامعة الواحدة هو نواة لمشروع تجاري. فاذا نجحت عُشر هذه المشاريع فهذا انجاز بذاته. كل هذا التفكير  لا يحتاج الى عبقرية، بل يحتاج الى القليل من التأمل.
 
علينا ان نتعلم الكثير من هذه الحضاره العريقة و هذا المجتمع المتقدم. الشعب هنا يقدس العلم. العلم هو ما ينظم حياتهم و يضع قوانينهم، و الجميع هنا تحت القانون. انني ازداد اقتناعا يوما بعد يوم أننا كمجتمعات عربية ليس لدينا ما نقدمه أمام هذا الكم من الانجازات، اننا بالفعل عبء على الانسانية ككل. ليس لدينا شيء نعطيه سوى النفط الذي لم نمتلكه أساسا، و الذي قارب على النفاذ أصلا.

 بقيت تحت تأثير هذه الاسئله و التأملات المحبطة طيلة فترة أيام الدوام الجامعي حتى وصلنا إلى عطلة نهاية الاسبوع. أردت حينها أن أخرج ليلاً برفقة بعض الأصحاب إلى وسط المدينة للاستمتاع بجلسه راقيةٍ في هذه المدينة المتقدمة و لأختلط أكثر مع هذا الشعب المتحضر... و عندها ظهرت صدمة من نوع اخر. يبدو أن الصورة التي كونتها عن ذلك الرقي قد بدأت فجأة بالتذبذب! جميع الأماكن مغلقة الا ال"pubs" و ال"night clubs" صراخ هنا وهناك... ضحكات تشق هدوء الليل، أجساد تترنح، نساء في الخمسينات يرتدين ما ترتديه المراهقات! رائحة الكحول في كل مكان في الشارع، مجموعة صغيرة من الشباب والشابات في لباس أنيق يخرجون من احدى "night clubs" الراقية، ترتمي احدى الشابات على الرصيف وتفرغ ما في بطنها  على طرف الشارع، يبدو أنها شربت كثيرا! نتجاوزها ونمشي على الطرف الاخر. أناس كثر وضجة تزداد وكأنه منتصف النهار. نسير قليلا، رجل يترنح ثم ينام على الأرض ويبدأ بالبكاء. الشرطة تسير بهدوء بين الناس لا يتدخلون الا اذا حصل شجار. مالذي يحصل؟ هل أنا في نفس الزمن ام عدت الى العصور الوسطى؟! احدى الشباب عاري الصدر يحمل فتاة على كتفه و يركض بها وهي تضحك و تصرخ وهو يضحك ويصرخ ايضا. انتقلنا الى شارع اخر، أصوات الموسيقى الصاخبة  تخرج من احدى ال" night clubs " ، على بضع أمتار إثنان من رجال الاسعافات الأولية بالقرب من رجل ملقى على الأرض يحاولون ايقاظه، يبدو أنه فقد وعيه من السكر. لا أفهم ما يحدث، أين ذهبت العقول؟ ماذا عن الرقي الحضاري ؟ ألتفت الى صديقي الذي كان يسير بكل هدوء، ينظر الي مبتسما بسخرية و يقول: "أهلا بك في بريطانيا... بلد الحريات!".
يتبع...
خ.ع.ع