Sunday 8 September 2013

يوما ما سنتحدث العربية...

يوما ما سنتحدث العربية...

البحث في أصل اللغة العربية أمر عجيب. ذلك أنك كلما غصت في أعماقها محاولا الوصول الى القاع، وجدت نفسك قد وصلت الى سطح بحر جديد. واذا أردت الصعود شدتك العلاقة بينها و بين فطرة الانسان. فبنية اللغة مازالت لغزا حتى الان، وتفكيك كلمة الى جذرها مازال أمرا خلافيا. فمن علماء اللغة من يعتقد أن جذر الكلمة ثلاثي، ومنهم من يرى أن أصل الكلمة جذر ثتائي اقترن بأصوات سمعها الانسان من حوله كـ دبّ، دفّ، دقّ، حنّ، سفّ..الخ و أضيف حرف لاستكمال المعنى ضمن فلسفة معينة. و قد ألمح  ابن جني في كتاب الخصائص الى أن أصل الكلمة قد يعود الى حرف واحد فقط! و يتناسب معنى الكلمة مع أسلوب لفظه. فالحاء رقيق عاطفي يفيد الرفق كحب، حياة، حر، حنان، الخ. والخاء غليظ عنيف و الشين متشعب منتشر تجده في كلمات تفيد الانتشار ك"انتشار، تشعب، شجرة، شبكة، الخ ولعل طريقة نطق حرف الجيم تحتمل التجويف والاحتواء فجاءت في كلمات مثل: جيب، جوف، جرة، جرس، جمر، جمل، الخ. وهذه مجرد نظرية تحدث بها بعض علمائنا، ولكنها تبين قرب العربية من الفطرة حتى ظن بعضهم أن العربية لغة خُلق الانسان بها!
   
 وإنشاء جملة عربية أشبه بتركيب معادلة فلسفية متسقة الوزن عند نهاية كل كلمة. و يكفي أن تضيف تنوينا واحدا فتغير به الوزن لتقلب المعنى؛ ف"أنا قاتلٌ(1) الفتى" لا يعني بالضرورة أنني "أنا قاتلُ الفتى"! وقد استُحدث علم كامل من أكثر من ألف عام يهدف الى البحث في أواخر الكلم وفي نحو تحريكها حتى عرف بعلم النحو.

 و قد لا أبالغ كثيرا اذا قلت أن كل من تحدث العربية قد اعطى درساً في الفلسفة و-"علم الكلام" دون أن يعلم بذلك... يقول العالم العارف الخليل بن أحمد الفراهيدي: "الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ : رَجُلٌ يَدْرِي ويَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ عَالِمٌ فَاتَّبِعُوهُ وَسَلُوهُ ، وَرَجُلٌ لا يَدْرِي ويَدْرِي أَنَّهُ لا يَدْرِي فَذَلِكَ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ ، وَرَجُلٌ يَدْرِي وَلا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ عَاقِلٌ فَنَبِّهُوهُ ، وَرَجُلٌ لا يَدْرِي وَلا يَدْرِي أَنَّهُ لا يَدْرِي فَذَلِكَ مَائِقٌ فَاحْذَرُوهُ" و من أجل ذلك وجب التنبيه!

والخليل بن أحمد الفراهيدي لمن لا يعرفه هو إحدى الأعمده الشامخة في التراث العربي. فبدايةً هو الأستاذ الحضرموتي(2)  الذي تتلمذ على يديه سيبواه والأصمعي والاخفش و غيرهم  ، وهو مؤسس علم العَروض الذي أظهر اتساق أشعار اللغة العربيه مع أنغام الحياة عندما غاص مؤسسه في بحور موسيقى الشعر ليبين 15 بحراً من بحور الشعر قبل أن يتدارك عليه أحد تلامذته البحر السادس عشر.  

 اذن، فاللغة العربية ليست مجرد لغة عاديه كما درسناها في مدارسنا العربية، فيبدو أنها مزجت مع المنطق وتأثرت وأثرت بعلم الكلام. ولا أدري لماذا يُهمل هذا الجانب عندما تدرس اللغة في مدارسنا. ويكفي أن تقرأ في كتاب "أسرار اللغة" لل إمام الأنباري (513-577 هـ) ليتضاعف علمك وانبهارك بهذه اللغة. فبداية، يفصح الامام الأنباري عن أحد أسرار العربيه البسيط عندما يجيب على سؤال: "لم قيل إن أقسام الكلام ثلاثة لا رابعة لها؟ ]الإسم والفعل والحرف]" فيجيب قائلا: "قيل لأنا وجدنا هذه الأقسام الثلاثة يعبر بها عن جميع ما يخطر بالبال ويتوهم في الخيال، ولو كان هناك قسمٌ رابع لبقي في النفس شيءٌ لايمكن التعبير عنه..." ويفضح سرا أخر من أسرار اللغة عندما يعلن سبب تسمية الاسم بال-"اسم" وذلك لأنه يسمو فوق الفعل والحرف، اذ أنك تستطيع أن تكون جملةً مفيدة باستخدام اسماء فقط دون الحاجة إلى إستخدام  أفعال أو حروف ( كما في الجملة الإسمية) فاستحق السمو؛ و كأنه يستطيع أن يقوم بذاته . و أما في الجمله الفعليه فإنه لابد من وجود الفاعل، وإذا فُقد الفاعل فإنه يبنى تلقائياً إلى  فاعل مستتر أو إلى فاعل مجهول لينوب عنه نائبه.  ولا يبنى أبداً إلى العدم أو إلى "الفوضى" فما على ذلك فطر عقل الانسان القديم على ما يبدو! وربما هذا كان شبيهاً بالمنطق الأرصطاطيلي في مسألة "السببيه" (causality).        
*     *     *
وفي ناحيةٍ أخرى نرى كيف استفادة علماء اللغة العربية من سلاستها فأوجدوا المنظومات التي تختصر لب علمٍ ما في أبيات شعر تحفظ غيباً من قبل الطلاب أو حتى الأطفال. وربما كان أشهرها ألفيه ابن ملك في النحو أو منظومة الحريري في الاعراب التي أدعو إلى إعادة ادراجها في المناهج المدرسية حتى يتشرب الطالب عراقه اللغة العربية وترسخ قوانينها في صدره.

يقول الحريري في منظومته:




فالاسمُ مَا يَدخُلُهُ مِنْ وإلى=أو كانَ مَجرورًا بِحتّى وعَلَى
مثَالُهُ زيدٌ وخَيلٌ وغَنَمْ=وذَا وتلكَ والذي ومَنْ وكَمْ

والفِعلُ مَا يَدخُلُ قَدْ والسّينُ=عليهِ مِثلُ بَانَ أو يَبِينُ
أو لَحِقَتْهُ تاءُ مَن يُحدّثُ=كقولِهم في لَيسَ لستُ أَنفُثُ
أو كانَ أمرًا ذَا اشتِقَاقٍ نحوُ قُلْ=ومثلُهُ ادخُلْ وانبَسِطْ واشرَبْ وكُلْ

والحرفُ ما ليستْ لهُ عَلامَهْ=فَقِسْ على قَولي تَكُنْ عَلامَهْ
مثالُهُ حتّى ولا وَثُمَّا=وهل وبَل ولَو ولَم ولَمَّا
 
  *     *     *

صفحة من كتاب "عنوان الشرف الوافي" للعالم إسماعيل بن أبي بكر المقرئ


وإذا ما رميت نفسك فوق جبال كتب التراث العربي التي اخترقت  السماء،  فإنك قد تجد نفسك فوق كنزٍ ملأه الغبار،  وإذا ما أزحت جزأ من ذاك الغبار، فإنك قد تعاود اكتشاف لوحه فنيه احتوت عند فك رموزها خمس لوحات سحرية. "عنوان الشرف الوافي" كتاب قد غاب عن كثير  من علمائنا المعاصيرٍين. وقد اندثر اسم مؤلفه في سطور كتب التراث التي اندثرت هي بدورها خلف أسوار الإستعمار الفكري أسفل ركام الاستغراب. كتابٌ لو وجده الإيطاليون لوضعوه في متاحفهم بجانب الموناليزا فهي مثله تقرأ بصور مختلفة تبعاً لوجهة النظر. هذا الكتاب يحتوي خمسة كتبٍ خطت حروفهم في أنٍ معاً: الفقه، والعروض، والتاريخ، والنحو، والقوافي. وقد صيغت حروفه بإبداع لتشكل حروفه العاموديه كتاباً إذا قرئت عامودياً وكتاباً أخر إذا قرئت أفقياً. فاستحق أن يكون عنوانا لشرف التراث العربي.

لم يكن هذا سوى قطرة من محيط تراثنا تمنيت أن أذيب بها خجل من يخجل أن يتكلم العربية من أبناء جلدتنا.


خ.ع.ع

 ______________________________________
(1): مع تنوين الضم فوق اللام       
(2): (لمن يدعون غياب الهويه العربيه عند علماء اللغة العربيه)