Friday 31 May 2013

نظرة متواضعة في علامات الحضارة

نظرة متواضعة في علامات الحضارة

دعك من التطور التكنولوجي، فهذا يحتاج إلى أموال طائلة، وهو ليس بالضررورة مقياسا دقيقا للحضارة. فهناك دول شارفت على إنتاج القنبلة النووية وغزت الفضاء و لكن شعبها على أوج إحداث انقلاب دموي بسبب الاضطهاد الذي يعانيه. دعك أيضا من العناوين العامة التي يفسرها كلٌ كما يشاء؛ كالمساواة و العدل و الحرية و الديمقراطية. من وجهة نظري، هناك أمور إذا ما  أُخذت  في عين  الاعتبار فإنها قد تجعل قبائل الهنود الحمر أكثر تحضرا من أوروبا بأسرها! وهذه الأمور يستدل عليها بأربعة مؤشرات: تعامل المجتمع مع ذوي الاعاقات، تعامل المجتمع مع الاقليات، تعامل المجتمع مع البيئة، و كيف يحل أفراد المجتمع خلافاتهم. وهذا ما سأحاول توضيحه في هذا المقال.

أولا: تعامل المجتمع مع ذوي الإعاقات:
قد تحتاج الى ساعة من الوقت فقط لتقرأ "ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الاعاقة" و الذي وقعت عليه الكثير من الدول المتحضرة. ولعل أهم مادتين –من وجهة نظري- هما المادة الاولى و المادة 19. فالمادة الاولى تضمن التمتع بحق التساوي التام في الحقوق بين جميع الناس سواء الأشخاص ذوي الاعاقات أو من ليس به إعاقة. وهذا بالطبع يشمل حق التنقل للأعمى و البصير أو المقعد و غير المقعد، وحقه في أن تكون جميع الأماكن و المباني مهيأة لتنقله، وأيضا حقه في العمل و الزواج و ممارسة الرياضة الى غير ذلك من حقوق يتمتع بها الجميع. أما المادة 19 فهي تنص على حق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في الحصول على كل ما يلزم لتأمين الحياة المستقلة التي يستطيعون من خلالها الاستغناء عن الاخرين و الاعتماد على أنفسهم،  والتي تمكنهم من الانخراط التام في المجتمع. لذلك فإنك تجد الأعمى في بريطانيا –على سبيل المثال- يقطع الشوارع التي تسير عليها السيارات و القطارات معتمدا فقط على عصاته و على النقوش البارزة على أرصفة الشوارع، والإشارات الضوئية التي تصدر صفيرا. فالأمر اذا لا يحتاج الى تلك التكنلوجيا. حتى أن وسائل النقل العام كالباصات تحتوي على رافعة ضغيرة ترفع بها الشخص المقعد بضع سنتيمترات حتى يدخل الحافلة و يذهب الى مكانه المخصص داخلها. وقد تجد من يعاني ضعفا شديدا في النظر يعمل في أمور ادارية وبجانبه موظف فقط لمساندته. ومعظم برامج التلفاز تحتوي على ترجمة كتابية لمساعدة الأصم على مشاهدة التلفاز. و بالطبع هناك الدورة الأولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة (Paralympics) الكاملة و المبهرة التي تجعل من لا يعاني من أي اعاقة يشعر أنه صاحب إعاقات اذا ما قارن نفسه بهم. وهذه الدول في الحقيقة تستحق الاحترام لأنها بداية أدركت أن هناك أناس من ذوي الاحتياجات الخاصة يعيشون بينهم ولم تغض الطرف عنهم. ولأنها استطاعت أن تدرك أن عدم قدرتنا على إدراجهم في المجتمع كأي فرد اخر هي في الحقيقة إعاقة نمتلكها نحن جميعاّ!

ثانيا: تعامل المجتمع مع الأقليات
يضع الأسقف "ديزموند توتو" الحاصل على جائزة نوبل للسلام و المتعاطف مع قضايانا السياسية تعريفا جميلا للديمقراطية حينما يقول أنها طريقة تعامل الأغلبية مع الأقلية. و ربما يمكن توسيع هذا التعريف ليشمل طريقة تعامل الحزب الحاكم صاحب السلطة مع الأقليات التي لا تملك نفس السلطة.  

أحيانا تشعر هنا -في بريطانيا- أن المسلمين يملكون حقوقا اكثر من تلك التي يملكونها في بلادهم. فلهم الحق في ممارسة شعائرهم الى حد كبير، ولهم الحق بنشر معتقداتهم علنا.  ولكنك تجد في المقابل و في دول أوروبية أخرى "متحضرة" تقنينا لهذه الحقوق حتى في ممارسة أبسط الشعائر مثل: سويسرا، فرنسا، بلجيكا، بضعة مدن في اسبانيا، اضافة الى محاولات من ايطاليا و هولندا لادراج قوانين تقنن بعض هذه الحقوق، و الساخر في الأمر أن هذه التقنينات تكون عادة باسم الدفاع عن الحريات أو باسم العلمانية أو حتى الديمقراطية. و رغم اندماج الكثير من الأقليات العرقية في المجتمع الاوروبي واندراج القوانين التي تجرم اي نوع من أنواع العنصرية العرقية أو الدينية، إلا أنك مازالت تشاهد بين الحينة و الأخرى مظاهر للعنصرية ضد أشخاص من أصول افريقية فقط بسبب لون بشرتهم. وقد ظهر هذا علنا في رياضة كرة القدم البريطانية. و هناك تخاوف من ازدياد ظاهرة ال"زينوفوبيا" ونمو الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل EDL و أحزاب النازيين الجدد، مما أدى منظمة الأمم المتحدة الى اصدار قرار رقم 67/154 الذي يدين أي تمجيد لهذه الأحزاب المتطرفة و يظهر بوضوح قلق تزايد هذه المنظمات في معظم دول اوروبا.  وليس غريبا جدا توقع ذلك في دول ما زالت النظرة الرأسمالية و الاستشراقية متجذرة في سياساتهم و تاريخهم ابتداءا من معاداتهم للسامية، وانتهاء بأحزابهم المتطرفة الشبابية الجديدة. بالطبع من الظلم التعميم فهناك الكثير من الاوروبيين الذين يحاربون هذه الحركات العنصرية بصدق تام، (لا بل يكرسون حياتهم لذلك) ولكن القصد هنا أن المشكله للأسف متجذرة في حضارتهم و لم تٌجتث بشكل كامل بعد.

وفي حضارتنا العربية أمثلة نستطيع أن ندعي من خلالها أننا نسبيا من أفضل الحضارات التي احتوت واحترمت الأقليات و الإثنيات المختلفة. و مازلنا الى حد كبير نتمتع بهذه الميزة ابتداء باستيعابنا الحضارات المختلفة كالفارسية و التركية و الافريقية و إثرائها و الاستفادة منها، مرورا بحضارة الأندلس وصولا الى احتضاننا المهاجرين اليهود الذين اضطٌهدوا في أوروبا فلجؤوا الينا و تعايشنا معهم تحت حكمنا الى يومنا هذا (باعترافهم) في الدول العربية (بما في ذلك فلسطين قبل احتلالها)، و اندماج العرب مع الأعراق الإفريقية دون وجود أي نظرة فوقية في معظم الدول العربية. وعلينا بالطبع أن ندحض النزعات الطبقية و القومية و السياسية التي بدأت تظهر في الساحة العربية بسبب نزاعات الشرق الأوسط وتهذيب الأصوات التي تظهر نزعة تكبرية لأن أحدنا ينتمي الى قبيلة عريقة النسل أو لأنه من أرض ثرية أو لأن هذه الأرض تقع على الجانب الشرقي أو الغربي أو لأن بعضنا يحمل فكرا مخالفا للاخر. ولكننا ومع كل ذلك يمكننا القول أننا أفضل –نسبيا- من الدول الغربية من هذه الناحية و ربما أكثر تحضرا و هذا يبعث على الأمل و التفاخر.

أما من ناحية تعاملنا مع الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، فاننا بالطبع نبعُد بسنين ضوئية! و في الحقيقة لا يوجد لدينا سوى الرابط الأخلاقي أو الديني الذي يذكرنا بالاهتمام بهم. ولذلك يجب على النشطاء الاجتماعيين القيام بمبادرات لتوعية ذوي الاحتياجات الخاصة على حقوقهم و حث الحكومات على إدراج القوانين اللازمة و إدراجها في شروط البناء و العمل و التنقل و جميع الخدمات الأخرى التي من شأنها أن تعطي ذوي الاعاقة القدرة على العيش بشكل مستقل و توفير الفرص –التي هي أصلا من حقهم- لأن يكونوا عناصر فعالين في المجتمع بدلا من ان يُنظر اليهم على أنهم غير ذلك.

يتبع.. 
                                                                                                                  خ.ع.ع